سورة النور - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النور)


        


جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، فلا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي فنزلت {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا} الآية. فقال أبو بكر بعد نزولها: يا رسول الله أرأيت الخانات والمساكن التي ليس فيها ساكن فنزل {ليس عليكم جناح} الآية. ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن أهل الإفك إنما وجدوا السبيل إلى بهتانهم من حيث اتفقت الخلوة، فصارت كأنها طريق للتهمة، فأوجب الله تعالى أن لا يدخل المرء بيت غيره إلاّ بعد الاستئذان والسلام، لأن في الدخول لا على هذا الوجه وقوع التهمة وفي ذلك من المضرة ما لا خفاء به. والظاهر أنه يجوز للإنسان أن يدخل بيت نفسه من غير استئذان ولا سلام لقوله {غير بيوتكم} ويروى أن رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أأستأذن على أمي؟ قال: «نعم» قال: ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: «أتحب أن تراها عريانة» قال الرجل: لا، قال: وغيّا النهي عن الدخول بالاستئناس والسلام على أهل تلك البيوت، والظاهر أن الاستئناس هو خلاف الاستيحاش، لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا، فهو كالمستوحش من جفاء الحال إذا أذن له استأنس، فالمعنى حتى يؤذن لكم كقوله: {لا تدخلوا بيوت النبيّ إلا أن يؤذن لكم} وهذا من باب الكنايات والإرداف، لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن فوضع موضع الإذن.
وقد روي عن ابن عباس أنه قال {تستأنسوا} معناه تستأذنوا، ومن روى عن ابن عباس أن قوله {تستأنسوا} خطأ أو وهم من الكاتب وأنه قرأ حتى تستأذنوا فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين، وابن عباس بريء من هذا القول. و{تستأنسوا} متمكنة في المعنى بنية الوجه في كلام العرب. وقد قال عمر للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أستأنس يا رسول الله وعمر وأقف على باب الغرفة الحديث المشهور. وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به صلى الله عليه وسلم. وقيل: هو من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف، استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً، والمعنى حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا، ومنه استأنس هل ترى أحداً واستأنست فلم أر أحداً، أي تعرفت واستعلمت ومنه بيت النابعة:
كان رحلى وقد زال النهار بنا *** يوم الجليل على مستأنس وحد
ويجوز أن يكون من الإنس وهو أن يتعرف هل ثم إنسان. وعن أبي أيوب قال: قلنا: يا رسول الله، ما الاستئناس؟ قال: «يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة يتنحنح يؤذن أهل البيت والتسليم أن يقول السلام عليكم».
وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته: حييتم صباحاً وحييتم مساء ثم يدخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف. واحد فصدّ الله عن ذلك وعلم الأحسن الأكمل. وذهب الطبري في {تستأنسوا} إلى أنه بمعنى حتى تؤنسوا أهل البيت من أنفسكم بالتنحنح والاستئذان ونحوه وتؤنسوا أنفسكم بأن تعلموا أن قد شُعر بكم. قال ابن عطية: وتصريف الفعل يأبى أن يكون من آنس انتهى. وقال عطاء: الاستئذان واجب على كل محتلم، والظاهر مطلق الاستئذان فيكفي فيه المرة الواحدة. وفي الحديث: «الاستئذان ثلاث» يعني كماله. «فإن أذن له وإلاّ فليرجع ولا يزيد على ثلاث إلاّ أن يحقق أن من في البيت لم يسمع» والظاهر تقديم الاستئذان على السلام. وفي حديث أبي داود: قل السلام عليكم أأدخل؟ والواو في {وتسلموا} لا تقتضي ترتيباً فشرع النداء بالسلام على الإذن لما في السلام من التفاؤل بالسلامة.
{ذلكم} إشارة إلى المصدر المفهوم من {تستأنسوا} و{تسلموا} أي {ذلكم} الاستئناس والتسليم {خير لكم} من تحية الجاهلية. {لعلكم تذكرون} أي شرَّعنا ذلك ونبهناكم على ما فيه مصلحتكم من الستر وعدم الاطلاع على ما تكرهون الإطلاع عليه {لعلكم تذكرون} اعتناء بمصالحكم.
{فإن لم تجدوا فيها أحداً} أي يأذن لكم فلا تقدموا على الدخول في ملك غيركم {حتى يؤذن لكم} إذ قد يكون لرب البيت فيه ما لا يحب أن يطلع عليه. {وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا} وهذا عائد إلى من استأذن في دخول بيت غيره فلم يؤذن له سواء كان فيه من يأذن أم لم يكن، أي لا تلحوا في طلب الإذن ولا في الوقوف على الباب منتظرين. {هو أزكى} أي الرجوع أطهر لكم وأنمى خيراً لما فيه من سلامة الصدر والبعد عن الريبة. ثم أخبر أنه تعالى {بما تعملون عليم} أي بما تأتون وما تذرون مما خوطبتم به فيجازيكم عليه، وفي ذلك توعد لأهل التجسس على البيوت وطلب الدخول على غيره والنظر لما لا يحل.
{ليس عليكم جناح} قال الزمخشري: استثنى من البيوت التي يجب الاستئذان على داخلها ما ليس بمسكون منها نحو الفنادق وهي الخانات والربط وحوانيت البياعين، والمتاع المنفعة كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع انتهى. وما ذكره الزمخشري من أنه استثناء من البيوت كما ذكر هو مروي عن ابن عباس وعكرمة والحسن، ولا يظهر أنه استثناء لأن الآية الأولى في البيوت المسكونة والمملوكة، ولذلك قال {بيوتاً غير بيوتكم} وهذا الآية الثانية هي في البيوت المباحة، وقد مثل العلماء لهذه البيوت أمثلة. فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد: هي في الفنادق التي في طرق المسافرين.
قال مجاهد: لا يسكنها أحد بل هي موقوفة يأوي إليها كل ابن سبيل. و{فيها متاع} لهم أي استمتاع بمنفعتها، ومثل عطاء بالخرب التي تدخل للتبرز. وقال ابن زيد والشعبي: هي حوانيت القيسارية والسوق. قال ابن الحنيفة أيضاً: هي دور مكة، وهذا لا يسوغ إلا على القول بأن دور مكة غير مملوكة، وأن الناس فيها شركاء وأن مكة فتحت عنوة. {والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} وعيد للذين يدخلون البيوت غير المسكونة من أهل الريب.
و {من} في {من أبصارهم} عند الأخفش زائدة أي {يغضوا} {أبصارهم} عما يحرم، وعند غيره للتبعيض وذلك أن أول نظرة لا يملكها الإنسان وإنما يغض فيما بعد ذلك، ويؤيده قوله لعليّ كرم الله وجهه: لا تتبع النظرة النظرة فإن الأولى لك وليست لك الثانية. وقال ابن عطية: يصح أن تكون {من} لبيان الجنس، ويصح أن تكون لابتداء الغاية انتهى. ولم يتقدم مبهم فتكون {من} لبيان الجنس على أن الصحيح أن من ليس من موضوعاتها أن تكون لبيان الجنس. {ويحفظوا فروجهم} أي من الزنا ومن التكشف. ودخلت {من} في قوله {من أبصارهم} دون الفرج دلالة على أن أمر النظر أوسع، ألا ترى أن الزوجة ينظر زوجها إلى محاسنها من الشعر والصدور والعضد والساق والقدم، وكذلك الجارية المستعرضة وينظر من الأجنبية إلى وجهها وكفيها وأما أمر الفرج فمضيق. وعن أبي العالية وابن زيد: كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلاّ هذا فهو من الاستتار، ولا يتعين ما قاله بل حفظ الفرج يشمل النوعين. {ذلك} أي غض البصر وحفظ الفرج أطهر لهم {إن الله خبير بما يصنعون} من إحالة النظر وانكشاف العورات، فيجازي على ذلك. وقدم غض البصر على حفظ الفرج لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أشد وأكثر لا يكاد يقدر على الاحتزاز منه، وهو الباب الأكبر إلى القلب وأعمر طرق الحواس إليه ويكثر السقوط من جهته. وقال بعض الأدباء:
وما الحب إلا نظرة إثر نظرة *** تزيد نمواً إن تزده لجاجا
ثم ذكر تعالى حكم المؤمنات في تساويهنّ مع الرجال في الغض من الأبصار وفي الحفظ للفروج. ثم قال {ولا يبدين زينتهن} واستثنى ما ظهر من الزينة، والزينة ما تتزين به المرأة من حلّي أو كحل أو خضاب، فما كان ظاهراً منها كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب فلا بأس بإبدائه للأجانب، وما خفى منها كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط فلا تبديه إلا لمن استثنى. وذكر الزينة دون مواضعها مبالغة في الأمر بالتصون والتستر لأن هذه الزين واقعة على مواضع من الحسد لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء وهي الساق والعضد والعنق والرأس والصدر والآذان، فنهى عن إبداء الزين نفسها ليعلم أن النظر لا يحل إليها لملابستها تلك المواقع بدليل النظر إليها غير ملابسة لها، وسومح في الزينة الظاهرة لأن سترها فيه حرج فإن المرأة لا تجد بدًّا من مزاولة الأشياء بيدها ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها خاصة الفقيرات منهنّ وهذا معنى قوله {إلا ما ظهر منها} يعني إلاّ ما جرت العادة والجبلة على ظهوره، والأصل فيه الظهور وسومح في الزينة الخفيفة.
أولئك المذكورون لما كانوا مختصين به من الحاجة المضطرة إلى مداخلتهم ومخالطتهم ولقلة توقع الفتنة من جهاتهم ولما في الطباع من النفر عن مماسة القرائب، وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك. وقال ابن مسعود {ما ظهر منها} هو الثياب، ونص على ذلك أحمد قال: الزينة الظاهرة الثياب، وقال تعالى {خذوا زينتكم عند كل مسجد} وفسرت الزينة بالثياب. وقال ابن عباس: الكحل والخاتم. وقال الحسن في جماعة: الوجه والكفان. وقال ابن جريج: الوجه والكحل والخاتم والخضاب والسوار. وقال الحسن أيضاً: الخاتم والسور. وقال ابن عباس: الكحل والخاتم فقط. وقال المسور بن مخرمة: هما والسوار. وقال الحسن أيضاً: الخاتم والسوار. وقال ابن بحر: الزينة تقع على محاسن الخلق التي فعلها الله وعلى ما يتزين به من فضل لباس، فنهاهنّ الله عن إبداء ذلك لمن ليس بمحرم واستثنى ما لا يمكن اخفاؤه في بعض الأوقات كالوجه والأطراف على غير التلذذ. وأنكر بعضهم إطلاق الزينة على الخلقة والأقرب دخوله في الزينة وأي زينة أحسن من خلق العضو في غاية الاعتدال والحسن.
وفي قوله {وليضربن بخمرهنّ على جيوبهنّ} دليل على أن الزينة ما يعم الخلقة وغيرها، منعهنّ من إظهار محاسن خلقهنّ فأوجب سترها بالخمار. وقد يقال لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورها عادة وعبادة في الصلاة والحج حسن أن يكون الاستثناء راجعاً إليهما، وفي السنن لأبي داود أنه عليه السلام قال: «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلاّ هذا: وأشار إلى وجهه وكفيه» وقال ابن خويز منداد: إذا كانت جميلة وخيف من وجهها وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك، وكان النساء يغطين رؤوسهنّ بالأخمرة ويسدلنها من وراء الظهر فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر عليهنّ وضمَّن {وليضربن} معنى وليلقين وليضعن، فلذلك عداه بعلى كما تقول ضربت بيدي على الحائط إذا وضعتها عليه. وقرأ عياش عن أبي عمرو {وليضربن} بكسر اللام وطلحة {بخمرهنّ} بسكون الميم وأبو عمرو ونافع وعاصم وهشام {جيوبهن} بضم الجيم وباقي السبعة بكسر الجيم.
وبدأ تعالى بالأزواج لأن اطلاعهم يقع على أعظم من الزينة، ثم ثنى بالمحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة ولكن تختلف مراتبهم في الحرمة بحسب ما في نفوس البشر، فالأب والأخ ليس كابن الزوج فقد يُبدي للأب ما لا يبدى لابن الزوج.
ولم يذكر تعالى هنا العم ولا الخال. وقال الحسن: هما كسائر المحارم في جواز النظر قال: لأن الآية لم يذكر فيها الرضاع وهو كالنسب، وقال في سورة الأحزاب {لا جناح عليهن في آبائهن} ولم يذكر فيها البعولة وذكرهم هنا، والإضافة في {نسائهن} إلى المؤمنات تقتضي تعميم ما أضيف إليهن من النساء من مسلمة وكافرة كتابية ومشركة من اللواتي يكن في صحبة المؤمنات وخدمتهن، وأكثر السلف على أن قوله {أو نسائهن} مخصوص بمن كان على دينهن.
قال ابن عباس: ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة ولا تبدي للكافرة إلاّ ما تبدي للأجانب إلاّ أن تكون أَمة لقوله {أو ما ملكت أيمانهن} وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن امنع نساء أهل الذمة من دخول الحمام مع المؤمنات. والظاهر العموم في قوله {أو ما ملكت أيمانهن} فيشمل الذكور والإناث، فيجوز للعبد أن ينظر من سيدته ما ينظر أولئك المستثنون وهو مذهب عائشة وأم سلمة. وعن مجاهد: كان أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم، وروي أن عائشة كانت تمتشط وعبدها ينظر إليها. وعن سعيد بن المسيب مثله ثم رجع عنه. وقال ابن مسعود والحسن وابن المسيب وابن سيرين: لا ينظر العبد إلى شعر مولاته وهو قول أبي حنيفة. وفي الحديث: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً فوق ثلاث إلاّ مع ذي محرم» والعبد ليس بذي محرم. وقال سعيد بن المسيب: لا يغرنكم آية النور فإن المراد بها الإماء. قال الزمخشري: وهذا هو الصحيح لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي منها خصياً كان أو فحلاً. وعن ميسون بنت بحدل الكلابية: إن معاوية دخل عليها ومعه خصي فتقنعت منه، فقال: هو خصي فقالت: يا معاوية أترى المثلة تحلل ما حرم الله. وعند أبي حنيفة لا يحل إمساك الخصيان واستخدامهم وبيعهم وشراؤهم، ولم ينقل عن أحد من السلف إمساكهم انتهى. والإربة الحاجة إلى الوطء لأنهم بله لا يعرفون شيئاً من أمر النساء، ويتبعون لأنهم يصيبون من فضل الطعام. قال ابن عطية: ويدخل في هذه الصفة المجنون والمعتوه والمخنث والشيخ الفاني والزمِن الموقوذ بزمانته.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر بالنصب على الحال أو الاستثناء وباقي السبعة بالجر على النعت وعطف {أو الطفل} على {من الرجال} قسم التابعين غير أولي الحاجة للوطء إلى قسمين رجال وأطفال، والمفرد المحكي بأل يكون للجنس فيعم، ولذلك وصف بالجمع في قوله {الذين لم يظهروا} ومن ذلك قول العرب: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض يريد الدنانير والدراهم فكأنه قال: أو الأطفال.
و {الطفل} ما لم يبلغ الحلم وفي مصحف حفصة أو الأطفال جمعاً. وقال الزمخشري: وضع الواحد موضع الجمع لأنه يفيد الجنس ويبين ما بعده أنه يراد به الجمع ونحوه {يخرجكم طفلاً} انتهى. ووضع المفرد موضع الجمع لا ينقاس عند سيبويه وإنما قوله {الطفل} من باب المفرد المعرف بلام الجنس فيعم كقوله {إن الإنسان لفي خسر} ولذلك صح الاستثناء منه والتلاوة ثم يخرجكم بثم لا بالواو. وقوله ونحوه ليس نحوه لأن هذا معرف بلام الجنس وطفلاً نكره، ولا يتعين حمل طفلاً هنا على الجمع الذي لا يقيسه سيبويه لأنه يجوز أن يكون المعنى ثم يخرج كل واحد منكم كما قيل في قوله تعالى {واعتدت لهن متكأ} أي لكل واحدة منهن. وكما تقول: بنو فلان يشبعهم رغيف أي يشبع كل واحد منهم رغيف. وقوله {لم يظهروا} إما من قولهم ظهر على الشيء إذا اطّلع عليه أي لا يعرفون ما العورة ولا يميزون بينها وبين غيرها، وإما من ظهر على فلان إذا قوي عليه وظهر على القرن أخذه. ومنه {فأصبحوا ظاهرين} أي غالبين قادرين عليه، فالمعنى لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء.
وقرأ الجمهور {عورات} بسكون الواو وهي لغة أكثر العرب لا يحركون الواو والياء في نحو هذا الجمع. وروي عن ابن عباس تحريك واو {عورات} بالفتح. والمشهور في كتب النحو أن تحريك الواو والياء في مثل هذا الجمع هو لغة هذيل بن مدركة. ونقل ابن خالويه في كتاب شواذ القراءات أن ابن أبي إسحاق والأعمش قرأ {عورات} بالفتح. قال: وسمعنا ابن مجاهد يقول: هو لحن وإنما جعله لحناً وخطأ من قبل الرواية وإلاّ فله مذهب في العربية بنو تميم يقولون: روضات وجورات وعورات، وسائر العرب بالإسكان. وقال الفراء: العرب على تخفيف ذلك إلاّ هذيلاً فتثقل ما كان من هذا النوع من ذوات الياء والواو. وأنشدني بعضهم:
أبو بيضات رائح متأوب *** رفيق بمسح المنكبين سبوح
{ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن} كانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال. وقال ابن عباس: هو قرع الخلخال بالإجراء وتحريك الخلاخل عند الرجال. وزعم حضرمي أن امرأة اتخذت خلخالاً من فضة واتخذت جزعاً فجعلته في ساقها، فمرت على القوم فضربت برجلها الأرض فوقع الخلخال على الجزع فصوت فنزلت هذه الآية. وقال الزجاج: وسماع صوت ذي الزينة أشد تحريكاً للشهوة من إبدائها انتهى. وقال أبو محمد بن حزم ما معناه أنه تعالى نهاهن عن ذلك لأن المرأة إذا مرت على الرجال قد لا يلتفت إليها ولا يشعر بها: وهي تكره أن لا ينظر إليها، فإذا فعلن ذلك نبهن على أنفسهن وذلك بحبهن في تعلق الرجال بهن، وهذا من خفايا الإعلام بحالهن. وقال مكي: ليس في كتاب الله آية أكثر ضمائر من هذه، جمعت خمسة وعشرين ضميراً للمؤمنات من مخفوض ومرفوع.
وقال الزمخشري: وإنما نهى عن إظهار صوت الحلّي بعد ما نهى عن إظهار الحلّي علم بذلك أن النهي عن إظهار مواقع الحلّي أبلغ.
{وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون} لما سبقت أوامر منه تعالى ومناه، وكان الإنسان لا يكاد يقدر على مراعاتها دائماً وإن ضبط نفسه واجتهد فلا بد من تقصير أمر بالتوبة وبترجي الفلاح إذا تابوا. وعن ابن عباس {توبوا} مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة. وقرأ ابن عامر {أيه المؤمنون} ويا أية الساحر يا أيه الثقلان بضم الهاء، ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف، فلما سقطت الألف بالتقاء الساكنين اتبعت حركتها حركة ما قبلها وضمها التي للتنبيه بعد أي لغة لبني مالك رهط شقيق ابن سلمة، ووقف بعضهم بسكون الهاء لأنها كتبت في المصحف بلا ألف بعدها ووقف بعضهم بالألف.


لما تقدمت أوامر ونواةٍ في غض البصر وحفظ الفرج وإخفاء الزينة وغير ذلك وكان الموجب للطموح من الرجال إلى النساء ومن النساء إلى الرجال هو عدم التزوج غالباً لأن في تكاليف النكاح وما يجب لكل واحد من الزوجين ما يشغل أمر تعالى بإنكاح الأيامى، وهم الذين لا أزواج لهم من الصنفين حتى يشتغل كل منهما بما يلزمه، فلا يلتفت إلى غيره. والظاهر أن الأمر في قوله {وانكحوا} للوجوب، وبه قال أهل الظاهر، وأكثر العلماء على أنه هنا للندب ولم يخل عصر من الأعصار من وجود {الأيامى} ولم ينكر ذلك ولا أمر الأولياء بالنكاح.
وقال الزمخشري: {الأيامى} واليتامى أصلهما أيائم ويتائم فقلبا انتهى. وفي التحرير قال أبو عمر: وأيامى مقلوب أيائم، وغيره من النحويين ذكر أن أيماً ويتيماً جمعاً على أيامي ويتامى شذوذاً يحفظ ووزنه فعالى، وهو ظاهر كلام سيبويه. قال سيبويه في أواخر هذا باب تكسيرك ما كان من الصفات. وقالوا: وج ووجياً كما قالوا: زمن وزمنى فأجروه على المعنى كما قالوا: يتيم ويتامى وأيم وأيامى فأجروه مجرى رجاعي انتهى. وتقدم في المفردات الأيم من لا زوج له من ذكر أو أنثى. وفي شرح كتاب سيبويه لأبي بكر الخفاف: الأيم التي لا زوج لها، وأصله في التي كانت متزوجة ففقدت زوجها برزءٍ طرأ عليها فهو من البلايا، ثم قيل في البكر مجازاً لأنها لا زوج لها انتهى.
{منكم} خطاب للمؤمنين، أمر تعالى بإنكاح من تأيم من الأحرار والحرائر ومن فيه صلاح من العبيد والإماء، واندرج المؤنث في المذكر في قوله {والصالحين} وخص الصالحين ليحصن لهم دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم، ولأن {الصالحين} من الأرقاء هم الذين يشفق مواليهم عليهم وينزلونهم منزلة الأولاد في الأثرة والمودة، فكانوا مظنة للاهتمام بشأنهم وتقبل الوصية فيهم، والمفسدون منهم حالهم عند مواليهم على عكس ذلك. وقيل: معنى {والصالحين} أي للنكاح والقيام بحقوقه. وقرأ مجاهد والحسن من عبيدكم بالياء مكان الألف وفتح العين وأكثر استعماله في المماليك.
و {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} هذا مشروط بالمشيئة المذكورة في قوله: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله} {والله واسع} أي ذو غنى وسعة، يبسط الله لمن يشاء {عليم} بحاجات الناس، فيجري عليهم ما قدر من الرزق. {وليستعفف} أي ليجتهد في العفة وصون النفس وهو استفعل بمعنى طلب العفة من نفسه وحملها عليها، وجاء الفك على لغة الحجاز ولا يعلم أحد قرأ وليستعف بالإدغام {الذين لا يجدون نكاحاً}. قيل النكاح هنا اسم ما يمهر وينفق في الزواج كاللحاف واللباس لما يلتحف به ويلبس، ويؤيده قوله {حتى يغنيهم الله من فضله} فالمأمور بالاستعفاف هو من عدم المال الذي يتزوج به ويقوم بمصالح الزوجية.
والظاهر أنه أمر ندب لقوله قبل {أن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}.
ومعنى {لا يجدون نكاحاً} أي لا يتمكنون من الوصول إليه، فالمعنى أنه أمر بالاستعفاف كل من تعذر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر، ثم أغلب الموانع عن النكاح عدم المال و{حتى يغنيهم} ترجئة للمستعففين وتقدمة للوعد بالتفضل عليهم، فالمعنى ليكون انتظار ذلك وتأميله لطفاً في استعفافهم وربطاً على قلوبهم، وما أحسن ما ترتبت هذه الأوامر حيث أمر أولاً بما يعصم عن الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية وهو غض البصر، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام، ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه انتهى. وهو من كلام الزمخشري وهو حسن، ولما بعث السيد على تزويج الصالحين من العبيد والإماء رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ليصيروا أحراراً فيتصرفون في أنفسهم.
{والذين يبتغون الكتاب} أي المكاتبة كالعتاب والمعاتبة. {مما ملكت} يعم المماليك الذكور والإناث. و{الذين} يحتمل أن يكون مبتدأ وخبره الجملة، والفاء دخلت في الخبر لما تضمن الموصول من معنى اسم الشرط، ويحتمل أن يكون منصوباً كما تقول: زيداً فاضربه لأنه يجوز أن تقول زيداً فاضرب، وزيداً اضرب، فإذا دخلت الفاء كان التقدير بنية فاضرب زيداً فالفاء في جواب أمر محذوف، وهذا يوضح في النحو بأكثر من هذا. قال الأزهري: وسمي هذا العقد مكاتبة لما يكتب للعبد على السيد من العتق إذا أدى ما تراضيا عليه من المال، وما يكتب للسيد على العبد من النجوم التي يؤديها، والظاهر وجوب المكاتبة لقوله {فكاتبوهم} وهذا مذهب عطاء وعمرو بن دينار والضحاك وابن سيرين وداود، وظاهر قول عمر لأنه قال لأنس حين سأل سيرين الكتابة فتلكأ أنس كاتبه، أو لأضربنك بالدرة، وذهب مالك وجماعة إلى أنه أمر ندب وصيغتها كاتبتك على كذا، ويعين ما كاتبه عليه، وظاهر الأمر يقتضي أنه لا يشترط تنجيم ولا حلول بل يكون حالاً ومؤجلاً ومنجماً وغير منجم، وهذا مذهب أبي حنيفة.
وقال الشافعي: لا يجوز على أقل من ثلاثة أنجم. وقال أكثر العلماء: يجوز على نجم واحد. وقال ابن خويز منداد: إذا كاتب على مال معجل كان عتقاً على مال ولم تكن كتابة، وأجاز بعض المالكية الكتابة الحالية وسماها قطاعة. والخير المال قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء والضحاك، أو الحيلة التي تقتضي الكسب قاله ابن عباس أيضاً أو الدين قاله الحسن، أو إقامة الصلاة قاله عبيدة السلماني، أو الصدق والوفاء والأمانة قاله الحسن وإبراهيم أو إرادة خير بالكتابة قاله سعيد بن جبير.
وقال الشافعي: الأمانة والقوة على الكسب والذي يظهر من الاستعمال أنه الدين يقول: فلان فيه خير فلا يتبادر إلى الذهن إلاّ الصلاح، والأمر بالكتابة مقيد بهذا الشرط، فلو لم يعلم فيه خيراً لم تكن الكتابة مطلوبة بقوله {فكاتبوهم} والظاهر في {وآتوهم} أنه أمر للمكاتبين وكذا قال المفسرون وجمهور العلماء، واختلفوا هل هو على الوجوب أو على الندب؟ واستحسن ابن مسعود والحسن أن يكون ثلث الكتابة وَعلى ربعها، وقتادة عشرها. وقال عمر: من أول نجومه مبادرة إلى الخير. وقال مالك: من آخر نجم. وقال بريدة والحسن والنخعي وعكرمة والكلبي والمقاتلان: أمر الناس جميعاً بمواساة المكاتب وإعانته. وقال زيد بن أسلم: الخطاب لولاة الأمور أن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حقهم وهو الذي تضمنه قوله {وفي الرقاب}.
وقال صاحب النظم: لو كان المراد بالإيتاء الحط لوجب أن تكون العبارة العربية ضعوا عنهم أو قاصوهم، فلما قال {وآتوهم} دل على أنه من الزكاة إذ هي مناولة وإعطاء، ويؤكده أنه أمر بإعطاء وما أطلق عليه الإعطاء كان سبيله الصدقة. وقوله {من مال الله الذي آتاكم} هو ما ثبت ملكه للمالك أمر بإخراج بعضه، ومال الكتابة ليس بدين صحيح لأنه على عبده، والمولى لا يثبت له على عبده دين صحيح، وأيضاً ما آتاه الله هو الذي يحصل في يده ويملكه وما يسقطه عقيب العقد لا يحصل له عليه ملك فلا يستحق الصفة بأنه من مال الله الذي آتاه.
{ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} في صحيح مسلم عن جابر إن جارية لعبد الله بن أُبَيّ يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة كان يكرههما على الزنا، فشكيا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وقيل: كانت له ست معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة جاءته إحداهن ذات يوم بدينار وأخرى ببرد، فقال لهما ارجعا فازنيا، فقالتا: والله لا نفعل ذلك وقد جاءنا الله بالإسلام وحرم الزنا، فأتتا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكتا فنزلت والفتاة المملوكة وهذا خطاب للجميع، ويؤكد أن يكون {وآتوهم} خطاباً للجميع والنهي عن الإكراه على الزنا مشروط بإرادة التعفف منهن، لأنه لا يمكن الإكراه إلاّ مع إرادة التحصن، أما إذا كانت مريدة للزنا فإنه لا يتصور الإكراه. وكلمه {إن} وايثارها على إذا إيذان بأن المسافحات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن، وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من خبر الشاذ النادر. وقد ذهب هذا النظر على كثير من المفسرين فقال بعضهم {إن أردن} راجع إلى قوله {وأنكحوا الأيامى منكم} وهذا فيه بعد وفصل كثير، وأيضاً فالأيامى يشمل الذكور والإناث، فكان لو أريد هذا المعنى لكان التركيب: إن أرادوا تحصناً فيغلب المذكر على المؤنث. وقال بعضهم: هذا الشرط ملغى.
وقال الكرماني: هذا شرط في الظاهر وليس بشرط كقوله {إن علمتم فيهم خيراً} ومع أنه وإن كان لم يعلم خيراً صحت الكتابة.
وقال ابن عيسى: جاء بصيغة الشرط لتفحيش الإكراه على ذلك، وقال: لأنها نزلت على سبب فوقع النهي على تلك الصفة انتهى. و{عرض الحياة الدنيا} هو ما يكسبنه بالزنا. وقوله {فإن الله} جواب للشرط. والصحيح أن التقدير {غفور رحيم} لهم ليكون جواب الشرط فيه ضمير يعود على من الذين هو اسم الشرط، ويكون ذلك مشروطاً بالتوبة. ولما غفل الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء عن هذا الحكم قدروا {فإن الله} {غفور رحيم} لهن أي للمكرهات، فعريت جملة جواب الشرط من ضمير يعود على اسم الشرط. وقد ضعف ما قلناه أبو عبد الله الرازي فقال: فيه وجهان أحدهما: فإن الله غفور رحيم لهنّ لأن الإكراه يزيل الإثم والعقوبة من المكره فيما فعل، والثاني: فإن الله غفور رحيم للمكره بشرط التوبة، وهذا ضعيف لأنه على التفسير الأول لا حاجة لهذا الإضمار. وعلى الثاني يحتاج إليه انتهى. وكلامهم كلام من لم يمعن في لسان العرب.
فإن قلت: قوله {إكراههن} مصدر أضيف إلى المفعول والفاعل مع المصدر محذوف، والمحذوف كالملفوظ والتقدير من بعد إكراههم إياهنّ والربط يحصل بهذا المحذوف المقدر فلتجز المسألة قلت: لم يعدوا في الروابط الفاعل المحذوف، تقول: هند عجبت من ضربها زيداً فتجوز المسألة، ولو قلت هند عجبت من ضرب زيداً لم تجز. ولما قدر الزمخشري في أحد تقدير أنه لهن أورد سؤالاً فإن قلت: لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن لأن المكرهة على الزنا بخلاف المكره عليه في أنها غير آثمة قلت: لعل الإكراه كان دون ما اعتبرته الشريعة من إكراه بقتل أو بما يخاف منه التلف أو ذهاب العضو من ضرب عنيف وغيره حتى يسلم من الإثم، وربما قصرت عن الحد الذي تعذر فيه فتكون آثمة انتهى. وهذا السؤال والجواب مبنيان على تقدير لهنّ.
وقرأ {مبينات} بفتح الياء الحرميان وأبو عمرو وأبو بكر أي بيَّن الله في هذه السورة وأوضح آيات تضمنت أحكاماً وحدوداً وفرائض، فتلك الآيات هي المبينة، ويجوز أن يكون المراد مبيناً فيها ثم اتسع فيكون المبين في الحقيقة غيرها. وهي ظرف للمبين. وقرأ باقي السبعة والحسن وطلحة والأعمش بكسر الياء، فإما أن تكون متعدية أي {مبينات} غيرها من الأحكام والحدود، فأسند ذلك إليها مجازاً، وإما أن تكون لا تتعدى أي بينات في نفسها لا تحتاج إلى موضح بل هي واضحة لقولهم في المثل. قد بيَّن الصبح لذي عينين. أي قد ظهر ووضح. وقوله {ومثلاً} معطوف على آيات، فيحتمل أن يكون المعنى {ومثلاً} من أمثال الذين من قبلكم، أي قصة غريبة من قصصهم كقصة يوسف ومريم في براءتهما لبراءة من رميت بحديث الإفك لينظروا قدرة الله في خلقه وصنعه فيه فيعتبروا. وقال الضحاك: والمراد بالمثل ما في التوراة والإنجيل من إقامة الحدود، فأنزل في القرآن مثله. وقال مقاتل: أي شبهاً من حالهم في تكذيب الرسل أي بينا لكم ما أحللنا بهم من العذاب لتمردهم، فجعلنا ذلك مثلاً لكم لتعلموا أنكم إذا شاركتموهم في المعصية كنتم مثلهم في استحقاق العقاب. {وموعظة للمتقين} أي ما وعظ في الآيات والمثل من نحو قوله {ولا تأخذكم بهما رأفة} {ولولا إذ سمعتموه} {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً} وخص المتقين لأنهم المنتفعون بالموعظة.


النور في كلام العرب الضوء المدرك بالبصر، فإسناده إلى الله تعالى مجاز كما تقول زيد كرم وجود وإسناده على اعتبارين، إما على أنه بمعنى اسم الفاعل أي منوّر السموات والأرض، ويؤيد هذا التأويل قراءة عليّ بن أبي طالب وأبي جعفر وعبد العزيز المكي وزيد بن عليّ وثابت بن أبي حفصة والقورصي ومسلمة بن عبد الملك وأبي عبد الرحمن السلمي وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة {نور} فعلاً ماضياً و{الأرض} بالنصب. وإما على حذف أي ذو نور، ويؤيده قوله {مثل نوره} ويحتمل أن يجعل نوراً على سبيل المدح، كما قالوا فلان شمس البلاد ونور القبائل وقمرها، وهذا مستفيض في كلام العرب وأشعارها. قال الشاعر:
كأنك شمس والملوك كواكب ***
وقال:
قمر القبائل خالد بن زيد ***
وقال:
إذا سار عبد الله من مرو ليلة *** فقد سار منها بدرها وجمالها
ويروى نورها، وأضاف النور إلى {السموات والأرض} لدلالة على سعة إشراقه وفشو إضاءته حتى يضيء له السموات والأرض، أو يراد أهل السموات والأرض وأنهم يستضيئون به. وقال ابن عباس: {نور السموات} أي هادي أهل السموات. وقال مجاهد: مدبر أمور السموات. وقال الحسن: منور السموات. وقال أبي: الله به نور السموات أو منه نور السموات أي ضياؤها. وقال أبو العالية: مزين السموات بالشمس والقمر والنجوم، ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء. وقيل: المنزه من كل عيب امرأة نوار بريئة من الريبة والفحشاء. وقال الكرماني: هو الذي يرى ويرى به مجاز وصف الله به لأنه يرى ويرى بسببه مخلوقاته لأنه خلقها وأوجدها.
والظاهر أن الضمير في {مثل نوره} عائد على الله تعالى. واختلفوا في هذا القول ما المراد بالنور المضاف إليه تعالى. فقيل: الآيات البينات في قوله {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} وقيل: الإيمان المقذوف في قلوب المؤمنين. وقيل: النور هنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: النور هنا المؤمن. وقال كعب وابن جبير: الضمير في {نوره} عائد على محمد صلى الله عليه وسلم، أي مثل نور محمد. وقال أبيّ: هو عائد على المؤمنين وفي قراءته مثل نور المؤمن. وروي أيضاً فيها مثل نور من آمن به. وقال الحسن: يعود على القرآن والإيمان وهذه الأقوال الثلاثة عاد فيها الضمير على غير مذكور، ونقلت المعنى المقصود بالآية بحلاف عوده على الله تعالى، ولذلك قال مكي يوقف على {الأرض} في تلك الأقوال الثلاثة. واختلفوا في هذا التشبيه أهو تشبيه جملة بجملة لا يقصد فيها إلى تشبيه جزء بجزء ومقابلة شيء بشيء، أو مما قصد به ذلك أي مثل نور الله الذي هو هداه واتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس، أي مثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر.
وقيل: هو من التشبيه المفصل المقابل جزءاً بجزء، وقرروه على تلك الأقوال الثلاثة أي {مثل نوره} في محمد أو في المؤمن أو في القرآن والإيمان {كمشكاة} فالمشكاة هو الرسول أو صدره {والمصباح} هو النبوة وما يتصل بها من علمه وهداه و{الزجاجة} قلبه. والشجرة المباركة الوحي والملائكة رسل الله إليه، وشبه الفصل به بالزيت وهو الحجج والبراهين والآيات التي تضمنها الوحي وعلى قول المؤمن فالمشكاة صدره و{المصباح} الأيمان والعلم. و{الزجاجة} قلبه والشجرة القرآن وزيتها هو الحجج والحكمة التي تضمنها. قال أبيّ: فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات، وعلى قول الإيمان والقرآن أي مثل الإيمان والقرآن في صدر المؤمن في قلبه {كمشكاة} وهذا القول ليس في مقابلة التشبيه كالأولين، لأن المشكاة ليست تقابل الإيمان.
وقال الزمخشري: أي صفة {نوره} لعجيبة الشأن في الإضاءة {كمشكاة} أي كصفة مشكاة انتهى. ويظهر لي أن قوله {كمشكاة} هو على حذف مضاف أي {مثل نوره} مثل نور مشكاة وتقدّم في المفردات أن المشكاة هي الكوة غير النافذة، وهو قول ابن جبير وسعيد بن عياض والجمهور. وقال أبو موسى: المشكاة الحديدة والرصاصة التي تكون فيها الفتيل في جوف الزجاجة. وقال مجاهد: المشكاة العمود الذي يكون المصباح على رأسه، وقال أيضاً الحدائد التي تعلق فيها القناديل.
{فيها مصباح} أي سراج ضخم، والظاهر أن {الزجاجة} ظرف للمصباح لقوله {المصباح في زجاجة} وقدره الزمخشري في زجاج شامي، وكان عنده أصفى الزجاج هو الشامي ولم يقيد في الآية. وقرأ أبو رجاء ونصر بن عاصم {في زجاجة الزجاجة} بكسر الزاي فيهما، وابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية ابن مجاهد بفتحها. {كأنها} أي كأن الزجاجة لصفاء جوهرها وذاتها وهو أبلغ في الإنارة، ولما احتوت عليه من نور المصباح.
{كوكب دري} قال الضحاك: هو الزهرة شبه الزجاجة في زهرتها بأحد الدراري من الكواكب المشاهير، وهي المشتري، والزهرة، والمريخ، وسهيل ونحو ذلك. وقرأ الجمهور من السبعة نافع وابن عامر وحفص وابن كثير {دُرّي} بضم الدال وتشديد الراء والياء، والظاهر نسبة الكوكب إلى الدر لبياضه وصفائه، ويحتمل أن يكون أصله الهمز فأبدل وأدغم. وقرأ قتادة وزيد بن عليّ والضحاك كذلك إلاّ أنهما فتحا الدال. وروى ذلك عن نصر بن عاصم وأبي رجاء وابن المسيب. وقرأ الزهري كذلك إلاّ أنه كسر الدال. وقرأ حمزة كذلك إلاّ أنه همز من الدرء بمعنى الدفع، أي يدفع بعضها بعضاً، أو يدفع ضوؤها خفاءها ووزنها فعيل. قيل: ولا يوجد فعيل إلاّ قولهم مريق للعصفر ودريء في هذه القراءة.
قيل: وسرية إذا قيل إنها مشتقة من السرور، وأبدل من أحد المضعفات الياء فأدغمت فيها ياء فعيل، وسمع أيضاً مريخ للذي في داخل القرن اليابس بضم الميم وكسرها. وقيل: منه عليه. وقيل: {دري} ووزنه في الأصل فعول كسبوح فاستثقل الضم فرد إلى الكسر، وكذا قيل في سرته ودرته. وقرأ أبو عمرو والكسائي كذلك إلاّ أنه كسر الدال وهو بناء كثير في الأسماء نحو سكين وفي الأوصاف سكير. وقرأ قتادة أيضاً وأبان بن عثمان وابن المسيب وأبو رجاء وعمرو بن فائد والأعمش ونصر بن عاصم كذلك إلاّ أنه بفتح الدال. قال ابن جني: وهذا عزيز لم يحفظ منه إلاّ السكينة بفتح السين وشدّ الكاف انتهى. وفي الأبنية حكى الأخفش كوكب دريء من درأته ودرية وعليك بالسكينة والوقار عن أبي زيد. وحكى الفراء بكسر السين.
وقرأ الأخوان وأبو بكر والحسن وزيد بن عليّ وقتادة وابن وثاب وطلحة وعيسى والأعمش {تُوقد} بضم التاء أي {الزجاجة} مضارع أوقدت مبيناً للمفعول، ونافع وابن عامر وحفص كذلك إلاّ أنه بالياء أي {المصباح} وابن كثير وأبو عمرو {توقد} بفتح الأربعة فعلاً ماضياً أي {المصباح}. والحسن والسلمي وقتادة وابن محيصن وسلام ومجاهد وابن أبي إسحاق والمفضل عن عاصم كذلك إلاّ أنه بضم الدال مضارع {توقد} وأصله تتوقد أي {الزجاجة}. وقرأ عبد الله وقد بغير تاء وشدد القاف جعله فعلاً ماضياً أي وقد المصباح. وقرأ السلمي وقتادة وسلام أيضاً كذلك إلاّ أنه بالياء من تحت. وجاء كذلك عن الحسن وابن محيصن، وأصله يتوقد أي {المصباح} إلاّ أن حذف الياء في يتوقد مقيس لدلالة ما أبقى على ما حذف. وفي {يوقد} شاذ جدّاً لأن الياء الباقية لا تدل على التاء المحذوفة، وله وجه من القياس وهو حمله على يعد إذ حمل يعد وتعد وأعد في حذف الواو كذلك هذ لما حذفوا من تتوقد بالتاءين حذفوا التاء مع الياء وإن لم يكن اجتماع التاء والياء مستثقلاً.
{من شجرة} أي من زيت شجرة، وهي شجرة الزيتون. {مباركة} كثيرة المنافع أو لأنها تنبت في الأرض التي بارك فيها للعالمين. وقيل: بارك فيها للعالمين. وقيل: بارك فيها سبعون نبياً منهم إبراهيم عليه السلام، والزيتون من أعظم الشجر ثمراً ونماء واطراد أفنان ونضارة أفنان. وقال أبو طالب:
بورك الميت الغريب كما *** بورك نضر الرمان والزيتون
{لا شرقية ولا غربية}. قال ابن زيد: هي من شجر الشام فهي ليست من شرق الأرض ولا من غربها، لأن شجر الشام أفضل الشجر. وقال ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم: هي في منكشف من الأرض تصيبها الشمس طول النهار تستدير عليها، فليست خالصة للشرق فتسمى {شرقية}، ولا للغرب فتسمى {غربية} وقال الحسن: هذا مثل وليست من شجر الدنيا إذ لو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية.
وعن ابن عباس: أنها في درجة أحاطت بها فليست منكشفة لا من جهة الشرق ولا من جهة الغرب، وهذا لا يصح عن ابن عباس لأنها إذا كانت بهذه الصفة فسد جناها. وقال ابن عطية: إنها في وسط الشجر لا تصيبها الشمس طالعة ولا غاربة، بل تصيبها بالغداة والعشي. وقال عكرمة: هي من شجر الجنة. وقال ابن عمر: الشجرة مثل أي إنها ملة إبراهيم ليست بيهودية ولا نصرانية. وقيل: ملة الإسلام ليست بشديدة ولا لينة. وقيل: لا مضحى ولا مفيأة، ولكن الشمس والظل يتعاقبان عليها، وذلك أجود لحملها وأصفى لدهنها.
و {زيتونة} بدل من {شجرة} وجوز بعضهم فيه أن يكون عطف بيان، ولا يجوز على مذهب البصريين لأن عطف البيان عندهم لا يكون إلاّ في المعارف، وأجاز الكوفيون وتبعهم الفارسي أنه يكون في النكرات. و{لا شرقية} {ولا} على {غربية} على قراءة الجمهور بالخفض صفة لزيتونة. وقرأ الضحاك بالرفع أي لا هي شرقية ولا غربية، والجملة في موضع الصفة.
{يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار} مبالغة في صفاء الزيت وأنه لإشراقه وجودته يكاد يضيء من غير نار. والجملة من قوله {ولو لم تمسسه نار} حالية معطوفة على حال محذوفة أي {يكاد زيتها يضيء} في كل حال ولو في هذه الحال التي تقتضي أنه لا يضيء لانتفاء مس النار له، وتقدم لنا أن هذا العطف إنما يأتي مرتباً لما كان لا ينبغي أن يقع لامتناع الترتيب في العادة وللاستقصاء حتى يدخل ما لا يقدر دخوله فيما قبله نحو: «أعطوا السائل ولو جاء على فرس، ردوا السائل ولو بظلف محرق». وقرأ الجمهور: {تمسسه} بالتاء وابن عباس والحسن بالياء من تحت، وحسنه الفصل وأن تأنيث النار مجازي وهو مؤنث بغير علامة.
{نور على نور} أي متضاعف تعاون عليه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت، فلم يبق مما يقوى النور ويزيده إشراقاً شيء لأن المصباح إذا كان في مكان ضيق كان أجمع لنوره بخلاف المكان المتسع، فإنه ينشر النور، والقنديل أعون شيء على زيادة النور وكذلك الزيت وصفاؤه، وهنا تم المثال.
ثم قال {يهدي الله لنوره من يشاء} أي لهداه والإيمان من يشاء هدايته ويصطفيه لها. ومن فسر {النور} في {مثل نوره} بالنبوة قدر يهدي الله إلى نبوته. وقيل: إلى الاستدلال بالآيات، ثم ذكر تعالى أنه يضرب الأمثال للناس ليقع لهم العبرة والنظر المؤدّي إلى الإيمان، ثم ذكر إحاطة علمه بالأشياء فهو يضع هداه عند من يشاء. {في بيوت} متعلق بيوقد قاله الرماني، أو في موضع الصفة لقوله {كمشكاة} أي كمشكاة في بيوت قاله الحوفي، وتبعه الزمخشري قال {كمشكاة} في بعض بيوت الله وهي المساجد.
وقال {مثل نوره} كما ترى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت انتهى. وقوله كأنه إلى آخره تفسير معنى لا تفسير إعراب أو في موضع الصفة لمصباح أي مصباح {في بيوت} قاله بعضهم أو في موضع الصفة لزجاجة قاله بعضهم، وعلى هذه الأقوال الأربعة لا يوقف على قوله {عليم}. وقيل: {في بيوت} مستأنف والعامل فيه {يسبح} حكاه أبو حاتم وجوزه الزمخشري. فقال: وقد ذكر تعلقه بكمشكاة قال: أو بما بعده وهو {يسبح} أي {يسبح له} رجال في بيوت وفيها تكرير كقولك زيد في الدار جالس فيها أو بمحذوف كقوله {في تسع آيات} أي سبحوا في بيوت انتهى. وعلى هذه الأقوال الثلاثة يوقف على قوله {عليم} والذي اختاره أن يتعلق {في بيوت} بقوله {يسبح} وإن ارتباط هذه بما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر أنه يهدي لنوره من يشاء ذكر حال من حصلت له الهداية لذلك النور وهم المؤمنون، ثم ذكر أشرف عبادتهم القلبية وهو تنزيههم الله عن النقائص وإظهار ذلك بالتلفظ به في مساجد الجماعات، ثم ذكر سائر أوصافهم من التزام ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وخوفهم ما يكون في البعث. ولذلك جاء مقابل المؤمنين وهم الكفار في قوله {والذين كفروا} وكأنه لما ذكرت الهداية للنور جاء في التقسيم لقابل الهداية وعدم قابلها، فبدئ بالمؤمن وما تأثر به من أنواع الهدى ثم ذكر الكافر. والظاهر أن قوله {في بيوت} أريد به مدلوله من الجمعية.
وقال الحسن: أريد به بيت المقدس، وسمى بيوتاً من حيث فيه يتحيز بعضها عن بعض، ويؤثر أن عادة بني إسرائيل في وقيده في غاية التهمم والزيت مختوم على ظروفه وقد صنع صنعة وقدس حتى لا يجري الوقيد بغيره، فكان أضوأ بيوت الأرض. والظاهر أن {في بيوت} مطلق فيصدق على المساجد والبيوت التي تقع فيها الصلاة والعلم. وقال مجاهد: بيوت الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس والحسن أيضاً ومجاهد: هي المساجد التي من عادتها أن تنور بذلك النوع من المصابيح. وقيل: الكعبة وبيت المقدس ومسجد الرسول عليه الصلاة والسلام ومسجد قباء. وقيل: بيوت الأنبياء. ويقوي أنها المساجد قوله {يسبح له فيها بالغدو والآصال} وإذنه تعالى وأمره بأن {ترفع} أي يعظم قدرها قاله الحسن والضحاك. وقال ابن عباس ومجاهد: تبنى وتعلى من قوله {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} وقيل: {ترفع} تطهر من الأنجاس والمعاصي. وقيل: {ترفع} أي ترفع فيها الحوائج إلى الله. وقيل: {ترفع} الأصوات بذكر الله وتلاوة القرآن.
{ويذكر فيها اسمه} ظاهره مطلق الذكر فيعم كل ذكر عموم البدل. وعن ابن عباس: توحيده وهو لا إله إلاّ الله. وعنه: يتلى فيها كتابه. وقيل: أسماؤه الحسنى. وقيل: يصلى فيها.
وقرأ الجمهور {يُسبح} بكسر الباء وبالياء من تحت، وابن وثاب وأبو حيوة كذلك إلاّ أنه بالتاء من فوق، وابن عامر وأبو بكر والبحتري عن حفص ومحبوب عن أبي عمرو والمهال عن يعقوب والمفضل وأبان بفتحها وبالياء من تحت واحد المجرورات في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله، والأولى الذي يلي الفعل لأن طلب الفعل للمرفوع أقوى من طلبه للمنصوب الفضلة. وقرأ أبو جعفر: تسبح بالتاء من فوق وفتح الباء.
وقال الزمخشري: ووجهها أن تسند إلى أوقات الغدو والآصال على زيادة الباء، وتجعل الأوقات مسبحة. والمراد بها كصيد عليه يومان والمراد وحشهما انتهى. ويجوز أن يكون المفعول الذي لم يسم فاعله ضمير التسبيحة الدال عليه {تسبح} أي تسبح له هي أي التسبيحة كما قالوا {ليجزي قوماً} في قراءة من بناه للمفعول أي ليجزي هو أي الجزاء.
وقرأ أبو مجلز: والإيصال وتقدم نظيره وارتفع {رجال} على هاتين القراءتين على الفاعلية بإضمار فعل أي {يسبح} أو يسبح له رجال. واختلف في اقتياس هذا، فعلى اقتياسه نحو ضربت هند زيد أي ضربها زيد، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي المسبح رجال. وتقدم الكلام في تفسير الغدو والآصال والمراد بهما.
ثم ذكر تعالى وصف المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمر الله وطلبهم رضاه لا يشتغلون عن ذكر الله واحتمل قوله {لا تلهيهم تجارة ولا بيع} وجهين: أحدهما: أنهم لا تجارة لهم ولا بيع فيلهيهم عن ذكر الله كقوله:
على لا حب لا يهتدى بمناره ***
أي لا منار له فيهتدى به. والثاني: أنهم ذوو تجارة وبيع ولكن لا يشغلهم ذلك عن ذكر الله وعما فرض عليهم، والظاهر مغايرة التجارة والبيع، ولذلك عطف فاحتمل أن تكون تجارة من إطلاق العام ويراد به الخاص، فأراد بالتجارة الشراء ولذلك قابله بالبيع، أو يراد تجارة الجلب ويقال: تجر فلان في كذا إذا جلبه وبالبيع البيع بالأسواق، ويحتمل أن يكون {ولا بيع} من ذكر خاص بعد عام، لأن التجارة هي البيع والشراء طلباً للربح. ونبه على هذا الخاص لأنه في الإلهاء أدخل من قبل أن التاجر إذا اتجهت له بيعة رابحة وهي طلبته الكلية من صناعته ألهته ما لا يلهيه شيء يتوقع فيه الربح لأن هذا يقين وذاك مطنون.
قال الزمخشري: التاء في إقامة عوض من العين الساقطة للإعلال والأصل أقوام، فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض فأسقطت ونحوه:
وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا ***
وهذا الذي ذكر من أن التاء سقطت لأجل الإضافة هو مذهب الفراء ومذهب البصريين، أن التاء من نحو هذا لا تسقط للإضافة وتقدم لنا الكلام على {وإقام الصلاة} في الأنبياء وصدر البيت الذي أنشد عجزه قوله:
إن الخليط أجدوا البين فانجردوا ***
وقد تأول خالد بن كلثوم قوله عدا الأمر على أنه جمع عدوة، والعدوة الناحية كأن الشاعر أراد نواحي الأمر وجوانبه.
{يخافون يوماً} هو يوم القيامة، والظاهر أن معنى {تتقلب} تضطرب من هول ذلك اليوم كما قال تعالى {وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر} فتقلبها هو قلقها واضطرابها، فتتقلب من طمع في النجاة إلى طمع ومن حذر هلاك إلى هلاك. وهذا المعنى تستعمله العرب في الحروب كقوله:
بل كان قلبك في جناحي طائر ***
ويبعد قول من قال {تتقلب} على جمر جهنم لأن ذلك ليس في يوم القيامة بل بعده. وقول من قال إن تقلبها ظهور الحق لها أي فتتقلب عن معتقدات الضلال إلى اعتقاد الحق على وجهه فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعاً عليها، وتبصر الأبصار بعد أن كانت عمياً والقول الأول أبلغ في التهويل. وقرأ ابن محيصن: تُقلب بإدغام التاء في التاء.
واللام في {ليجزيهم} متعلقة بمحذوف أي فعلوا ذلك {ليجزيهم} ويجوز أن تتعلق بيسبح وهو الظاهر. وقال الزمخشري: والمعنى يسبحون ويخافون {ليجزيهم} انتهى. والظاهر أن قوله {يخافون} صفة لرجال كما أن {لا تلهيهم} كذلك. {أحسن} هو على حذف مضاف أي ثواب أحسن ما عملوا، أو {أحسن} جزاء ما عملوا. {ويزيدهم من فضله} على ما تقتضيه أعمالهم، فأهل الجنة أبداً في مزيد. وقال الزمخشري: {ليجزيهم} ثوابهم مضاعفاً {ويزيدهم} على الثواب تفضيلاً وكذلك معنى قوله {الحسنى} وزيادة المثوبة الحسنى، وزيادة عليها من التفضل وعطاء الله عز وجل إما تفضل وإما ثواب وإما عوض.
{والله يرزق من يشاء} ما يتفضل به {بغير حساب} فأما الثواب فله حسنات لكونه على حسب الاستحقاق انتهى. وفي قوله على حسب الاستحقاق دسيسة اعتزال.

1 | 2 | 3 | 4